دار البريهي.. كل شيء تحت المجهر إلا الحقيقة

دار البريهي…زلزال إداري في قلب المؤسسة الإعلامية الرسمية

بهدوء لم يدم طويلاً، اهتزت أروقة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة مع مطلع يونيو الجاري بعد صدور قرار إعفاء مدير الافتحاص من مهامه. قرار إداري ظاهره بسيط، لكن باطنه أثار نقاشاً واسعاً حول استقلالية أجهزة الرقابة داخل المؤسسات العمومية، خاصة حين يتعلق الأمر بوظيفة تُعد قلب الشفافية والمحاسبة. واللافت أن الإعفاء تزامن مع اجتماع المجلس الإداري للمؤسسة، في لحظة تنظيمية تحمل أكثر من دلالة.

الاستقلالية التي سقطت في فخ التبعية

الحديث عن الافتحاص داخل المؤسسات العمومية لا يمكن أن ينفصل عن الإطار الدستوري. فالمادة الدستورية التي تنص على حياد المرافق العمومية واستقلاليتها، تضع مسؤول الافتحاص في موقع حساس يتطلب حماية قانونية مزدوجة.

فهو لا يُفترض أن يكون تابعاً للجهة التي يفتحصها، ولا أن يخضع لتأثيرها. غير أن ما حدث داخل دار البريهي يكشف عن حالة تعيين غامضة، طُبخت خارج سياق المساطر المتعارف عليها.

حسب معطيات متطابقة، المدير المعفى تم إلحاقه من وزارة الاقتصاد والمالية دون المرور بمسطرة التباري، وتم تعيينه في منصب رقابي على مؤسسة لا تربطه بها أي مسافة موضوعية.

وهو ما يشكل تضارباً واضحاً في المصالح، بل خرقاً لمنشور تنظيمي صريح صادر عن الوزارة نفسها. فكيف لمفتحص أن يراقب مؤسسة يُحسب ضمن طاقمها الإداري؟

دار البريهي..تساؤلات ثقيلة حول تقارير فقدت شرعيتها

الأخطر من الإعفاء ليس القرار في حد ذاته، بل مفاعيله القانونية التي قد تمتد إلى الوراء. فماذا عن التقارير التي أصدرها المدير السابق طيلة فترة اشتغاله؟ هل تبقى صالحة وملزمة؟ أم أن شبهة غياب الاستقلالية كفيلة بإسقاطها أو على الأقل إعادة تقييمها؟

المعايير الدولية في هذا الباب واضحة. فالرقابة حين تفقد حيادها، تفقد جدواها القانونية. والأسوأ أن المعلومات المتداولة تشير إلى وجود قرارات إدارية استفاد منها مقربون من المدير السابق دار البريهي، بينها زيادات مالية استثنائية من دون أي سند قانوني صريح. فهل كانت سلطة التقدير الإدارية غطاء لتوزيع الامتيازات بشكل غير منصف؟

النقابة تُحرج الإدارة وتطالب بالتحقيق

وسط هذا الجدل، تحركت النقابة الأكثر تمثيلية داخل الشركة الوطنية، التابعة للمنظمة الديمقراطية للشغل، لتلعب دور المراقب الشعبي. رفعت شعاراتها في فاتح ماي ضد “الأجر الخرافي”، ونظمت وقفات احتجاجية نددت بما وصفته بالتسيب الإداري. ولم تكتف بالاحتجاج، بل وجهت مراسلات رسمية إلى المجلس الأعلى للحسابات وهيئة النزاهة والمفتشية العامة للمالية، مطالبة بتحقيق مؤسساتي شامل في ظروف التعيين والتدبير.

دار البريهي..الشفافية على المحك.. فهل من محاسبة حقيقية؟

الملف لم يعد يخص شخصاً واحداً، بل تحول إلى اختبار مؤسساتي عميق لمدى التزام الدولة بروح الشفافية والحكامة الجيدة. هل نملك اليوم إرادة لمساءلة القرارات الإدارية التي يُحتمل أنها بُنيت على تجاوزات؟ وهل ستفتح الجهات الرقابية تحقيقاً حقيقياً أم أن الأمور ستُطوى في صمت كما يحدث في كثير من الملفات؟

ما يُنتظر اليوم ليس فقط توضيح خلفيات الإعفاء، بل إعادة النظر في كل تقارير الافتحاص السابقة، وتمحيص مساطر التعيين في هذا المنصب الحساس داخل باقي المؤسسات العمومية. لأن الإفلات من المسؤولية في مثل هذه القضايا، لا يُفقد المواطنين الثقة في المؤسسات فحسب، بل يضرب في الصميم واحدة من ركائز الدولة العادلة.

Exit mobile version