حرية الصحافة بنكهة الوزارة: تحت التوجيه… وفوق القانون!

في خرجة رسمية جديدة، أعلن المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، أن وزارته تشتغل “يوميًا” (نعم، يوميًا!) على إعداد مشروع قانون جديد يخص المجلس الوطني للصحافة، والهدف هذه المرة هو تنظيم التنظيم الذاتي، في خطوة تُثبت أن الذات تحتاج وصاية لتتعلّم كيف تنظم نفسها.

الوزير، الذي بدا مقتنعًا تمامًا بما يقول، أكد أن المشروع يستند إلى تجربة التنظيم الذاتي السابقة، التي يبدو أنها لم تكن ذاتية بما يكفي، ولا منضبطة بالقدر الكافي، ولا حتى فعالة إلى الحدّ الأدنى. لذلك وجب التدخل لتأطير هذه “الحرية”، لكن بطريقة ناعمة، دستورياً وبدافع قناعة داخلية جداً.


التنظيم الذاتي… تحت إشراف الوزارة!

المثير في الأمر، أن الوزارة تُصرّ على أن هذا المشروع لا يمس بحرية الصحافة، بل يعزّزها، من خلال تنظيمها بموجب نص قانوني رسمي تُشرف عليه الحكومة، ويخضع لرقابتها، ويُنفّذ باسمها… لكن بشكل ذاتي طبعًا!

ولأن المهنة شهدت، بحسب تعبير الوزير، تجاوزات وممارسات غير أخلاقية – مثل نشر الأخبار الزائفة والتضليل – فقد رأت الوزارة أن أفضل طريقة لتخليص الصحافة من هذه الأمراض هي منحها قانونًا جديدًا يعالجها بالتنقيط، مادةً مادة، وفق وصفة بيروقراطية دقيقة.


الصحفي بين المطرقة وسند القانون!

الواقع أن الصحافة في المغرب لم تَعد تحت ضغط السوق فقط، ولا تحت مطرقة الرقابة الكلاسيكية، بل أصبحت اليوم محاصرة بتنظيم ذاتي مدعوم بظهير رسمي، يضمن أن تبقى المهنة “حرة” بقدر ما يُسمح لها أن تكون.

ومن المضحك المبكي أن تكون حرية الصحافة مشروطة اليوم بمدى التزامها بنموذج محدد مسبقًا من طرف المؤسسة الوصية، في انتظار أن يتعلم الصحفي كيف يكون حرًا، لكن تحت إشراف تربوي صارم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل.


تخليق المهنة… من داخل المكاتب المكيفة

حين يتحدث المسؤولون عن “تخليق المهنة”، لا بد أن نتساءل: عن أي مهنة يتحدثون؟ هل هي الصحافة التي تنقل هموم المواطن؟ أم صحافة البلاغات والندوات الرسمية؟
وإذا كانت الغاية محاربة الأخبار الزائفة، فمن سيحدد ما هو زائف؟ الوزير؟ القانون؟ أم المجلس الوطني للصحافة… الذي يحتاج هو نفسه لمن ينظم عمله؟

الواضح أن الحديث عن الأخلاقيات صار وسيلة لتمرير المزيد من الضبط، وتبرير إنتاج قوانين تُلبس الهيمنة لبوس المسؤولية.


التنظيم الذاتي… مشروط بالموافقة المسبقة

في النهاية، يبدو أن مشروع القانون المنتظر سيحول التنظيم الذاتي إلى تنظيم إداري بامتياز، ببطاقة تعريف رسمية وختم الدولة، تحت شعار: “نحن نثق فيكم… لكن لا تبتعدوا كثيرًا عن إشرافنا المباشر”.

وهكذا، تبقى حرية الصحافة في المغرب مثل طائر موضوع في قفص مفتوح الباب… لكن مربوطة رجله بخيط ناعم، يسمى التنظيم الذاتي تحت إشراف السلطة.

Exit mobile version