الدهان والعصاب بين العلم والخرافة: قراءة نفسية–اجتماعية وفق DSM-5 وICD-11

الدهان والعصاب بين العلم والخرافة: قراءة نفسية–اجتماعية وفق DSM-5 وICD-11

بقلم يوسف باجا اخصائي نفسي ومعالج نفسي

يُعدّ الخلط بين الاضطرابات النفسية وبين المعتقدات الغيبية كالسحر والمسّ من الجن ظاهرة راسخة في المجتمعات العربية، خصوصًا عندما تظهر على المريض أعراض غير مألوفة للسلوك اليومي. فبدل أن تُفهم هذه الأعراض في إطارها العلمي والنفسي، تُفسَّر غالبًا كتجلٍّ لقوى خفية خارجة عن الذات.

هذه التصورات، رغم تجذرها الثقافي والديني، تُعرقل الوعي النفسي وتؤخر التدخل العلاجي المبكر، مما يضاعف معاناة الأفراد ويزيد من عزلة المريض. إن التمييز بين الدهان والعصاب يُعد من المفاتيح الأساسية لفهم طبيعة الاضطرابات النفسية وكيفية التعامل معها إكلينيكيًا.

فالدهان، كما تطرحه التصنيفات الحديثة DSM-5 وICD-11، يشير إلى اضطراب عميق في صلة الفرد بالواقع، حيث يفقد الشخص القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، وتظهر عليه أعراض ذهانية مثل الهلوسات والضلالات واضطراب التفكير والسلوك^[1][2]. المريض الذهاني عادة ما يفتقد للبصيرة بحالته، ويعتقد أن تجاربه الحسية أو أفكاره غير الواقعية حقائق مطلقة، ما يجعله بحاجة إلى تدخل طبي–دوائي وعلاج نفسي منظم.

في المقابل، يشير العصاب إلى اضطرابات نفسية لا تمس إدراك الواقع، إذ يحتفظ المريض بوعيه الكامل لكنه يعيش صراعات داخلية بين الرغبات والمخاوف أو بين ما يريد وما يجب عليه فعله. وتشمل الاضطرابات العصابية حسب DSM-5 وICD-11 فئات مثل اضطرابات القلق، الوسواس القهري، والرهاب الاجتماعي^[1][2]، وهي حالات تُحدث معاناة نفسية كبيرة دون أن تفقد الشخص اتصاله بالواقع. ومن المهم الإشارة إلى أن مصطلح العصاب لم يعد يُستخدم في التصنيفات الحديثة كمفهوم مستقل، بل تم دمجه ضمن فئات تشخيصية دقيقة.

على المستوى الثقافي، ما زالت مجتمعاتنا تميل إلى تفسير ما لا يُفهم بلغة الغيب. فعندما يسمع شخص أصواتًا أو يرى أشياء غير موجودة، يُقال إنه “ملبوس” أو “مسكون”، بينما من يعاني من نوبات خوف أو وسواس يُقال إنه “مسحور” أو “مصاب بالعين”. هذه التفسيرات الشعبية نابعة من الموروث الديني والتأويل الشعبي للنصوص، لكنها في حقيقتها انعكاس لغياب الوعي النفسي والعلمي. كما أن ضعف الولوج إلى خدمات الصحة النفسية، ووصمة المرض النفسي التي تجعل الاعتراف به عيبًا أو ضعفًا، يدفع الكثيرين إلى اللجوء إلى الرقاة والمشعوذين بدل المختصين.

هذا الخلط بين المرض النفسي والسحر يترتب عليه تأخر التشخيص والعلاج، مما يؤدي إلى تفاقم الحالات الذهانية أو العصابية. كما يعمق الوصمة الاجتماعية تجاه المرضى، فيُنظر إليهم كأشخاص “مصابين” بقوى خارقة بدل اعتبارهم مرضى يحتاجون إلى دعم وتفهم. وقد يشعر المريض وأسرته بالذنب أو الخوف من “القوى الخفية”، مما يزيد من المعاناة النفسية ويؤدي إلى العزلة والانسحاب من المجتمع.

إن تجاوز هذه التصورات المغلوطة يتطلب وعيًا جديدًا قائمًا على المعرفة العلمية والاحترام للبعد الثقافي والديني دون الوقوع في فخ التفسيرات غير العلمية. فالتوعية النفسية عبر الإعلام، والمدارس، والمؤسسات الصحية تظل أساسية لبناء ثقافة علاجية حديثة. كما أن التعاون بين الأخصائيين النفسيين والعلماء الدينيين المستنيرين يمكن أن يخلق خطابًا متوازنًا يميز بين ما هو روحي وما هو مرضي.

إن المرض النفسي ليس سحرًا ولا جنًّا، بل حالة إنسانية تحتاج إلى الفهم، التعاطف، والعلاج العلمي. والتمييز بين الدهان والعصاب، وفق التصنيفات العلمية المعتمدة في DSM-5 وICD-11، هو خطوة ضرورية لتصحيح الفهم العام للصحة النفسية، وتحرير الإنسان من وصمة “المسّ” والخرافة. فالمجتمع السليم نفسيًا هو الذي يدمج بين العلم والروح، وبين الإيمان والعقل، في انسجام يضمن التوازن الداخلي للفرد والنمو الصحي للجماعة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى