هيئة النزاهة تقيس الفساد بالمسطرة… والواقع يفوق كل القياسات

هيئة النزاهة تقيس الفساد بالمسطرة… والواقع يفوق كل القياسات

في المغرب، يبدو أن الفساد لم يعد ظاهرة تُحارب، بل ملفّاً يُقاس، يُصنّف، ويُرفَع إلى اللجان كما تُرفع تقارير الطقس. آخر حلقات هذا المشهد جاء على لسان الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، التي اعترفت أمام البرلمان بأن الوضع “مقلق”، وأن كلفة الفساد “يصعب تحديدها بدقّة”.


بمعنى آخر: الهيئة تعرف أنّ البيت يحترق… لكنها ما تزال تبحث عن نوع المقياس المناسب لقياس حرارة النار.

الأرقام التي قدّمتها الهيئة بدت كمن يمسك مسطرة في يد، ودلو ماء في اليد الأخرى. فمؤشر إدراك الفساد تراجع من 43 نقطة سنة 2018 إلى 37 نقطة في 2024، واهتز ترتيب المغرب إلى المرتبة 99 عالمياً بعد أن كان يُسوّق له كنموذج إصلاحي. أما مؤشر غياب الفساد، فسقط من المرتبة 47 إلى 95، وكأن البلاد قفزت من خانة “الأمل” إلى خانة “التعوّد”.

الهيئة فسّرت هذا التراجع بـ”تباين المعايير” و”صعوبة القياس”. لكن المواطن البسيط لا يحتاج إلى مؤشر ليشعر أن الفساد أصبح جزءاً من طريقة العيش: رخص تُمنح، صفقات تُفصّل على المقاس، مشاريع تتأخر بلا حساب، ومناصب تُدار بالولاء قبل الكفاءة. كل هذا لا يحتاج إلى جهاز قياس… بل إلى شجاعة قرار.

أما الرد الرسمي؟ كالمعتاد: “تم إنشاء لجنة لتتبع المؤشرات”.
في المغرب، عندما يتضخم الفساد، تنتعش اللجان. تُحارب الظواهر بالهيئات، الهيئات بالبلاغات، والبلاغات بالصمت. وهكذا يصبح الفساد بنية قائمة بذاتها، لا مجرد خطأ إداري أو سلوك فردي.

الواقع أن الفساد لم يعد قضية قانون فقط، بل أزمة قيم. كيف يمكن لمجتمع أن يحارب الفساد، بينما ينظر إلى من اغتنى بطرق مشبوهة على أنه “شاطر”، وإلى النزيه على أنه “مسكين ولا يفهم اللعبة”؟ هنا تصبح المشكلة أخطر من التقارير… إنها تتحول إلى ثقافة.

الأرقام الصادمة التي تم الكشف عنها تقول كل شيء:

  • تراجع 32 مركزاً في التحول السياسي والحكامة.

  • مؤشر Trace Bribery وضع المغرب بمستوى مخاطر 56 من 100 (متوسط عالمي 48).

  • خسارة مستمرة في ثقة المواطن… وهي الخسارة الأكبر التي لا تُقاس بالأرقام بل بالوجوه الصامتة.

الفساد اليوم لم يعد مجرد “شبح”. صار مرئياً، له أسماء وعناوين ومناصب وصفقات، ومع ذلك ما زال يُعامل كأنه غيمة عابرة. بينما الحقيقة البسيطة تقول:
من يدفع ثمن الفساد ليس ميزانية الدولة… بل المواطن الذي يموّله دون أن يشارك فيه.

في النهاية، قد نختلف في تعريف الفساد، لكننا نتفق أن قياسه بالمسطرة لن يغيّر الواقع. فالبلاد لا تحتاج لجنة جديدة، بل إرادة قديمة اسمها: الضمير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى