محمد الرويشة في مهبّ الريح | يرويها عبد الحق الزروالي

محمد الرويشة في مهبّ الريح | يرويها عبد الحق الزروالي

لم يكن محمد الرويشة مجرد اسم في سجل الأغنية المغربية، بل كان صوتًا يخرج من أعماق الجبال ليعانق أرواح الناس في البوادي والمدن. حمل الهجهوج كما يُحمل الحلم، ومشى به على دروب الغناء الصادق، دون بهرجة ولا حسابات شهرة. رجل من خنيفرة، لكنه كان ابنًا لكل المغرب، بل لروح المغرب.

هذا الاسم الكبير، الذي صار اليوم منسيًا في زحمة الأضواء الباردة، أعاده إلى الواجهة الفنان المسرحي عبد الحق الزروالي، في حكاية تُروى لأول مرة.

بصوته الدرامي الآسر، وبذاكرته التي تلتقط ما يضيع بين صفحات الزمن، حكى الزروالي كيف التقى بالرويشة، وكيف سمع منه قرارًا غريبًا آنذاك.

كان الرجل يفكر في تغيير مساره الفني، في مغادرة الأغنية الأطلسية التي عشقها الناس، ليغني عن السياسة وعن أطفال الحجارة وعن الشعارات.

كان اللقاء صدفة في خنيفرة. ليلة صيفية دافئة، وموعد كان يفترض أن يكون عابرًا، فإذا به يتحول إلى منعطف في حياة فنان. جلس الزروالي في بيت الرويشة، وسمع منه الأغنية الجديدة. أغنية ملتزمة، ثقيلة اللغة، مليئة بالتعابير السياسية.

وحين انتهى، قال له بهدوء: أنت لست في حاجة لهذا. لأنك التزام في حد ذاته. لأنك، من دون شعارات، قلت كل شيء. حين غنّيت عن الحب الذي فرقته الحدود، وعن الأشواق التي كبّلتها القيود، كنت تكتب رواية وطن بصوتك ونبرتك ولمستك.

كانت تلك الكلمات بمثابة صحوة للفنان الكبير. فالرجل، الذي لم يدرس الموسيقى في المعاهد، كان يحمل في نغماته كل مدارس الإحساس المغربي. وبدل أن يركب موجة الأغنية السياسية المباشرة، ظل وفيًا لصوته وأسلوبه. لم يبدل الهجهوج بالجيتار، ولم يتخل عن عفوية الجبال من أجل تصفيق العواصم.

محمد الرويشة، كما وصفه الزروالي، لم يكن فقط أيقونة أطلسية، بل كان جامعًا لصوت المغاربة من الشمال إلى الجنوب. حين كان الوسط الفني منشغلاً بالفصل بين الأغنية العصرية والشعبية والأمازيغية والريفية والحسانية، جاء هو ليجمع هذا الشتات في أغنية واحدة. في لحن واحد. في إحساس واحد.

لم يكن يقرأ النوتة، لكنه كان يقرأ الوجدان. لم يحتج إلى كلمات معقدة ولا إلى أستوديوهات ضخمة. فقط صوت، وهجهوج، وصدق. ومع ذلك، ظل خارج قوائم التتويج، بعيدًا عن التكريمات الرسمية. وكأن الزمن الحديث، في زحمة نجوم اللحظة، نسي من كان يحفر اللحن من الصخر.

اليوم، تمر السنوات على رحيله، وتبهت الأسماء، ويكبر النسيان. لكن صوت محمد الرويشة ما زال حيًا في قلوب من سمعوه في الأعراس والمقاهي وعلى أمواج الراديو. صوت لا يُشبه أحدًا، لأنه خرج من مكان لا يشبه أحدًا. من قلب الأطلس، من عمق الوجع والفرح.

عبد الحق الزروالي، في روايته، لم يكن فقط يستعيد ذكرى رجل، بل كان ينفض الغبار عن جزء من الذاكرة المغربية. عن مرحلة، وعن طبقة من الفنانين الذين لم يطلبوا شيئًا من الوطن، سوى أن يسمعهم.

في النهاية، لا يحتاج الرويشة إلى تمثال ولا شارع باسمه. يكفيه أن الهجهوج ما زال يُعزف، وأن صدى نبرته ما زال يرتد في صدور الذين عرفوا أن الفن الحقيقي لا يُصنع في الاستوديوهات، بل في الصدق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى